حين التقى آينشتاين وطاغور | نصوص

Getty Images

 

عن اللقاء بين آينشتاين وطاغور

في عام 1930، التقى حائزان على «جائزة نوبل» في منزل أحدهما في برلين. كانا في عالَم يموج بالأحداث، سيختلف فيه طاغور مع غاندي، وسيرسل آينشتاين رسالة شهيرة إلى روزفلت.

دار حوارهما حول كَوْنَيْن، أحدهما مستقلّ عن الإنسان، والآخر يتّسق معه. آينشتاين، رغم كلّ تجديداته، كان وفيًّا لأفكاره السبينوزيّة*، كان يؤكّد أنّ العالم هناك، أنّنا لو متنا الآن جميعًا فالطاولة الّتي أمامهما، والقطّة الّتي تنام بسلام عليها (بعدما ضلّت الطريق قبل أيّام إلى البيت، ولم يُعْرَف مالكها) ستظلّان في زمكانهما رغم غياب الرائيّ.

بينما كان طاغور - الّذي تشدّ يداه الفراغ وتجرحان به قلبه - يرى كلّ شيء جزءًا من «المايا»، الوهم أو السحر الّذي يجعلنا نصدّق بوجود العالم أمامنا، الّذي يمثّل - إن دقّقنا النظر - دالًّا شبحيًّا لمدلول لانهائيّ هو وحده الحقيقيّ.

كان العالم يموج بالأحداث حولهما، ستصل قريبًا - بقطارات من دخان - حرب عالميّة جديدة، ستستقلّ شِبْه قارّة عن الإمبراطوريّة بعد وفاة طاغور، وستظهر قنبلة نوويّة - قبل ذلك - من ومضة:

E=mc²

شبّه فيها آينشتاين-الشاعر الطاقة (حرارةً تتجمّع الأعضاء حولها لتسمع أخبار الغائب) بالكتلة (جبالًا تُشَدّ إليها حوافر النجوم بالمراسي)، كأنّما سافر بينهما ببراق أسرع من الضوء (الضوء أيضًا ذو طبيعة مزدوجة، يتصرّف، حسب السياق، كموجة أو جُسَيم)، فأبصر هذه الحركة الجوهريّة من الكتلة إلى الطاقة، ومن الطاقة إلى الكتلة.

كلّ تلك الأحداث كانت قادرة على أن تجعل أيّ شخص يعتنق مذهب العالِم أو الشاعر، فاليقين وعدمه - أيضًا - يعتمدان على زاوية النظر في تجربة «الشقّ المزدوج».

آينشتاين - الّذي وقعت طاولة زهر على رأسه قبلها، جعلته يكتب لفيزيائيّ يُدْعى بور "إنّ الله لا يلعب النرد بالكون"، فيردّ عليه الأخير "لا تخبر الله ماذا يفعل" - قال لضيفه، المؤمن ببراهمان، في نهاية الحديث:

-  إذن، أنا أشدّ تديّنًا منك!

بعدها التزما الصمت. نظرا إلى القطّة على الطاولة، فاستيقظتْ من موتها. توجّهت إلى طاغور، وقفزت في حجره، وفي طوقها استطاع الشاعر أن يقرأ اسم مالكها بالألمانيّة، الّذي لم ينتبه العالِم إليه لصغر الخطّ، فقال لمضيفه:

- إنّها قطّة إرفين شرودنغر.

 

***

 

استعارة

يسكن داخل كلّ واحد مثاله للحبّ، وكلّ آخر يحبّه هو اسم أو استعارة تشير إلى ذلك المثال. لا يحبّ المرء في الآخر سوى نموذجه القديم من الحبّ. وكما قد يصف الشعراء الشيء ذاته باستعارات عديدة، كذلك يمكن للعاشق أن ينتقل من معشوق إلى آخر بصدق الحبّ عينه، فليست ليلى سوى استعارة عن ليلى المرقوشة صورتها بالنور في أحشاء قيس، مذ كانت روحه تسبح حول مثالها في عالم الذرّ. ولو قضى طفولته مع عزّة أو بثينة، لجُنّ بهما كما جُنّ بها تقريبًا، بقدر قدرة كلّ استعارة على الكشف.

 

***

 

موقف الحاجز

بعد أشهر من آخر لقاء بيننا في الجامعة، شاهدتُ على «حاجز قلنديا» الفتاة الّتي هجرتني. لم تنتبه إليّ. كانت تنتظر أحدًا ما هناك، كأنّ السنوات الضوئيّة من جميع انتظارات الناس على الحاجز تحجّرت في وجهٍ كان وجهها. عجبتُ من نفسي كيف أحببتُها، وكيف قضيتُ الفترة الأخيرة في متاهة يسكنها ’مينوتور‘ من الدمع. كأنّ غطائي كُشِفَ عن بصري. كأنّني في منفاي بعيدًا عن خريطة كانت تفردها خلسة تحت قدميّ، نسيتُ لغة هذي الخريطة الأرض؛ فلم أقدر على أن أترجم وجهها إلى المعنى القديم داخلي (كنتُ معها في السابق مترجمًا تخونه هو ترجمته)، ولم يبقَ من الوجه، وأنا أعبر إلى زخرفات «آية الكرسي» في قبّة القدس، سوى خربشات يد منهكة تحت الغبش.

 

***

 

قميص العمى

قبل أن تغوي زليخة يوسف، غطّت صنم إلهها؛ لأنّها خجلت من أن يراهما في لحظة المعصية. وربّما حين انتبه يوسف إلى ذلك، سألها عن الأمر، فكان خجلها برهان ربّه؛ إذ تذكّر أنّ الإله الّذي يعبده ينفذ بصره داخل كلّ شيء.

وربّما، كما يظنّ العاشق الخائب داخلي، غطّت التمثال لاحقًا؛ فبعد أن أغوته، وهمّ بها، كان على الوحي أن يتدخّل أمام سطوة الموقف، فغطّى عيون قلبه الشاخصة إليها، فهرب منها، فانتزعتْ قطعة من قميصه. وفي حالتها المهجورة تلك، كانت عينا التمثال أشدّ اختراقًا لدواخله من بصر ربّ يوسف. فلِتشهدَ حبّها؛ تجمّعتْ كلّ عيون الآلهة والكائنات سواه في حجر بارد، تناقض برودته نار القماشة المغسولة بعرق شهوة جسده في يدها، فأعمت بقميص يوسف عيون الوجود الّتي تحفر قلبها؛ لتبكي وهي تحدّق في طيف عينيه الموشوم بالإبر على آماق بصرها.

 

***

 

كعبة بحجم راحة اليد

كانت المرّة الأولى الّتي أتعرّف فيها على الحجّ ومناسكه، حين علّمتنا إيّاها معلّمة الصفّ الأوّل، وأخبرتنا أنّه يُعيد الإنسان إلى يوم ولادته بلا سيّئات.

أعطتنا هديّة العيد لعبة على شكل كعبة بحجم راحة اليد. كان عذبًا مسكها والتحديق إليها في الباص المدرسيّ المتّجه إلى الإجازة.

عندما وصلتُ البيت، كانت أمّي تشاهد بخشوع مشاهد الطواف، كأنّ المناسك الّتي تعلّمناها اكتست لحمًا ودمًا في التلفاز، وكأنّ الله وضع يده في جيبي واستعار لعبتي.

دخلت غرفتي، أغلقت الباب عليّ، وأخرجت ألعابي من الخزانة. استعدت كعبتي من الله، ووضعتها في المنتصف. شاهدتها تكبر حتّى كادت تلامس السقف، فطفت حولها مع الدمى الّتي شاركتني مناسك الحجّ.

كبرت، وسقطت من جيب غرفة طفولتي مثل كنغر بالغ. وكلّما تراكمت القسوة فوق قلبي كالجمرات، انكمشت متراجعًا إلى ركن صغير داخلي، ممسكًا يد طفل يطوف حول كعبته، فتفيض زمزم من عينيّ غاسلةً ذنوبي.

 

***

 

متحف في خزانة الألعاب

كانت خزانة ألعابي - الّتي لا تحتوي دمًى فقط - كولاجًا يشبه صناديق جوزيف كورنيل. كنت فنّانًا أقضي الساعات أخلق أماكن للقطع، أو قطعًا جديدة بدمج الأشكال معًا.

كانت مشاجراتي مع إخوتي تتوقّف على حالتها بعد ضرباتهم على الخزانة المغلقة، فإن وجدتُ أنّ الصدفة أعملت ريشتها الذهبيّة بالأشياء، كنت أسامحهم منتشيًا بمتحفي الصغير.

وإذا شاهدت خرابًا سيّئ الذوق، عندما ترتدي الصدفة قفّاز العادة المهترئ، يغادر الكولاج صندوقه إلى جسدي في عرضه الأدائيّ؛ فتصبح رئتاي بالونين أنفخهما ببقايا العطر في زجاجة كولونيا مكسورة، أتناول أسهمي المصنوعة من أغصان صنوبر الحيّ، الملتصق بأطرافها جنود أصغر من أصابعي، وأطارد إخوتي على ظهر حصان يحلّق بريشات صقور تسكن الهواء خارج نوافذ غرفتي.

 

***

 

عيون الشهداء حول عرس الجسدين

في أيّام الانتفاضة، كانت الأعراس تُقام بتكتّم شديد، حفاظًا على مشاعر الحداد الّتي كانت تحبس كلّ حاسّة في قفصها. كان على موسيقى الأفراح أن تضع يدها على فمها، وعلى الهواء أن يتشبّث بأجساد الراقصين كي لا يتسرّب من شقوق المكان المغلق إلى الهواء الوطنيّ.

كان المشي من النقطة أ إلى النقطة ب في زقاق ضيّق يشبه سفرًا في الزمن، حيث كلّ محطّة تحمل وجه شهيد، وتاريخ توقّف حصّته من الحياة عن الجريان في جسده، وحيث يتدفّق مجاز الشهيد-العريس من كلّ ملصق، فيغدو الشهيد هو العريس الحقيقيّ الوحيد.

وفي ليلهما الأوّل، وهما أخيرًا يقطعان عاريَين مسافة السرير بينهما، شعرا فجأة بأنّ هواء الغرفة صار أثقل، كأنّما يتفشّى به ضوء يرشد عمّال المناجم في حفرهم. كانت عيون الشهداء قد غادرت ملصقاتها على الجدران، وأخذت تعبر من ثقوب النوافذ ألف عين وعين، فتُصَبُّ حائطًا من جلال بين الجسدين، يتركهما -في عراء الحجرة - طينًا يتشرّب ليالي من ثلج.

 

***

 

أجمل فتاة في الجامعة

لمّا كانت لينا تعبر في شوارع الجامعة، كانت تحرّك جوهر كلّ ما حولها، فيغدو تحديقًا صامتًا إلى الجسد النادر إذ يبتكر وجوده.

وحين تختفي عن الأنظار، كان على الأشياء أن تحاول العودة إلى ذاتها، فتنهي نظرة الإعجاب بين اثنين غرقها في العين الّتي تنتظرها، وتكمل الصرخة رحلتها في الهواء عابرةً الآذان إلى وجهتها.

وذات يوم، شاهدتُها آخر الدوام في الطابق الأخير من مبنى كلّيّتي. كنّا وحدنا هناك، يوحّدنا خلوّ المكان. وحين مرّت لينا بجانبي دون أن تلتفت، أُعيد، في تلك اللحظة، خُلِق الكون من جديد؛ كي يُمْحى كلّ أثر لي منذ وُلِدتُ، وتعدّل سلسلة الأسباب الّتي أدّت إلى وجودي، فتلاشت أناي تمامًا.

 

***

 

لُكنة

تختلف لهجة أمّي عن لهجة أهل أبي، ورغم أنّني كنت أعدّ نفسي ابن والدي، إلّا أنّي ورثت لساني عن أمّي. وفي صغري، عندما ألعب مع أولاد أعمامي، كنت كثيرًا أحاول أن أنطق – بلهجتهم - الكلماتِ، فأشعر بالغربة عن لغتي الأمّ، وبغربة إضافيّة؛ إذ أشوّه لغتهم بأسلوبي.

مرّة استأذنتُ جدّي كي أغلق النافذة بسبب برد الليل، فأشارت إليها لُكنتي بلفظ ’شبّاك‘ المستعمل لديه، عوض ’طاقة‘ الممنوحة من أمّي (ألمح الآن الشبه بين الطاقة؛ أي النافذة الصغيرة، والحلمة، بين الضوء والحليب)، فزجرني بعينيه، وتهشّم الزجاج، وتضاعف في المكان جفاف الهواء.

 


 

أمير حمد

 

 

 

وُلِدَ في القدس ويقيم فيها. درس بكالوريوس علم الحاسوب من «جامعة بيرزيت». حصلتْ مجموعته القصصيّة الأولى «جيجي وأرنب علي»، وكذلك مجموعته الشعريّة الأولى «بحثت عن مفاتيحهم في الأقفال»، على جائزتَي «مسابقة الكاتب الشابّ» (2019)، الّتي نظّمتها «مؤسّسة عبد المحسن القطّان».